فصل: قال الصابوني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الصابوني:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)}
[5] حرمة الصلاة على السكران والجنب:

.التحليل اللفظي:

{سكارى}: قال في [اللسان]: السّكر نقيض الصحو، وأسكره الشراب، والجمع سُكارى وسَكْرى، شبّه بالنّوْكى، والحمقى، والهلْكَى لزوال عقل السكران.
وقال الراغب: السّكْر حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما يستعمل في الشراب، وقد يعتري من الغضب والعشق ولذلك قال الشاعر:
سُكْرانِ سُكْرُ هَوى وسكرُ مُدام

وأصل السُّكْلا من السِّكر وهو سد مجرى الماء، فالبسّكْر ينسد طريق المعرفة، وسكرةُ الموت شدته.
{جُنُبًا}: الجنب اسم يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمفرد والجمع يقال: رجل جنب، ورجال جنب، وأصل الجنابة البعد، ويقال للذي يجب عليه الغسل من حدث الجنابة جنب، لأن جنابته تبعده عن الصلاة وعن المسجد وقراءة القرآن حتى يتطهر.
{عَابِرِي سَبِيلٍ}: العابر من العبور يقال: عبرت نهر والطريق إذا قطعته من الجانب إلى الجانب الآخر، السبيلُ: الطريقُ ويراد يعابر السبيل المسافر، أو الذي يعبر بالمسجد أي يمر به.
{الغائط}: الغائط المكان المطئن من الأرض، وكان الرجل إذا أراد قضاء الحاجة طلب منخفضًا من الأرض لغيب عن عيون الناس، ثمّ كثر ذلك حتى قالوا للحدث غائطًا، فكنّوا به عن الحدث تسمية للشيء باسم مكانه.
{لامستم النساء}: اللمس حقيقته المس باليد، وإذا أضيف إلى النساء يراد به الجماع، وقد كثر هذا الاستعمال في الغة العرب، والقرآن قد كنى بالمباشرة والمس عن الجماع في آيات عديدة قال تعالى: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3] وقال تعالى: {وَلاَ تباشروهن وَأَنْتُمْ عاكفون فِي المساجد} [البقرة: 187].
{فَتَيَمَّمُواْ}: التيمم في اللغة: القصد يقال: تيممته برمحي أي قصدته دون غيره، وأنشد الخليل:
يمّمتُه الرمح شَزْرًا ثم قلتُ له ** هذي البسالةُ لا لعبُ الزحاليق

وتيمّم البلدة قصد التوجه إليها قال الشاعر:
وما أدري إذا يمّمتُ أرضًا ** أريدُ الخير أيّهما يليني

وفي الشرع: مسح الوجه واليدين بالتراب بقصد الطهارة، وقد جمع الشاعر المعنيين بقوله:
تيمّمتُكُم لمّا فقدتُ أولي النّهى ** ومن لم يجد ماءً تيمَّمَ بالترب

{صَعِيدًا طَيِّبًا}: قال الزجاج: الصعيد وجه الأرض ترابًا كان أو غيره، قال تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 8] وقال تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40] أي أرضًا ملساء تنزلق عليها الأقدام، وسمي صعيدًا لأنه يصعد من الأرض.
قال صاحب [القاموس]: الصعيد التراب، ووجه الأرض.
قال ابن قتيبة: ومعنى {صَعِيدًا طَيِّبًا} أي ترابًا نظيفًا.
{فامسحوا}: قال في [اللسان]: المسحُ إمرارك يدك على الشيء تريد إذهابه، كمسحك رأسك من الماء، وجبينك في الرّشح، مسحه مسحًا وتمسَّح منه وبه.
{عَفُوًّا غَفُورًا}: أي مسامحًا لعباده، متجاوزًا عمّا صدر منهم من خطأٍ وتقصير.

.المعنى الإجمالي:

نهى الله عباده المؤمنين عن أداء الصلاة في حالة السكر، لأن هذه الحالة لا يتأتى معها الخشوع والخضوع بمناجاته تعالى بكتابه وذكره ودعائه، وقد كان هذا قبل أن تحرم الخمر، وكان تمهيدًا لتحريمه تحريمًا باتًا، إذ لا يأمن من شرب الخمر في النهار أن تدركه الصلاة وهو سكران، وقد ورد أنهم كانوا بعد نزولها يشربون بعد العشاء فلا يصبحون إلا وقد زال عنهم السكر.
والمعنى: يا أيها المؤمنون لا تصلوا في حالة السكر حتى تعلموا ما تقولون وتقرؤون في صلاتكم، ولا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلاّ إذا كنتم مسافرين فإذا اغتسلتم فصلوا. وإن كنتم مرضى ويضركم استعمال الماء، أو مسافرين ولم تجدوا الماء، أو أحدثتم ببول أو غائط حدثًا أصغر، أو غشيتم النساء حدثًا أكبر، ولم تجدوا ماءً تتطهرون به، فاقصدوا صعيدًا طيبًا من وجه الأرض فتطهروا به، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ثم صلوا، ذلك رحمة من ربكم وتيسير عليكم، لأن الله يريد بكم اليسر، وكان الله عفوًا غفورًا.

.سبب النزول:

روى الترمذي عن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه أنه قال: «صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعامًا فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت» قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون قال، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
قال الفخر الرازي: فكانوا لا يشربون في أوقات الصلوات، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلاّ وقد ذهب عنهم السكر، ثم نزل تحريمها على الإطلاق في المائدة.
وجوه القراءات:
قرأ الجمهور {أَوْ لامستم النساء} وقرأ حمزة والكسائي {لَمَسْتُم النّسَاءَ} بغير ألف.
وجوه الإعراب:
1- قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سكارى} مبتدأ وخبر والجملة حال من ضمير الفاعل في تقربوا.
2- قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا} صعيدًا مفعول تيمموا أي قصدوا صعيدًا، وقيل منصوب بنزع الخافض أي بصعيد.
3- قوله تعالى: {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ} قال العكبري: الباء زائدة أي امسحوا وجوهكم به.

.لطائف:

اللطيفة الأولى:
ورد التعبير بالنهي عن قربان الصلاة في حالة السكر {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى} والنهي بهذه الصيغة أبلغ من قوله: لا تصلوا وأنتم سكارى فإذا حرم قربان الصلاة ففعلها وأداوها يكون ممنوعًا من باب أولى فهو كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 32] وقوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152].
قال أبو السعود: وتوجيه النهي إلى قربان الصلاة مع أن المراد هو النهي عن إقامتها للمبالغة في ذلك، وقيل: المراد النهي عن قربان المساجد ويأباه قوله تعالى: {حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ}.
اللطيفة الثانية:
التدرج في تحريم الخمر بهذه الطريقة الحكيمة التي سلكها القرآن الكريم برهان ساطع على عظمة الشريعة الغراء، فإن العرب كانوا يشربون الخمر كما يشرب أحدنا الماء الزلال، فلو حرّمت عليهم دفعة واحدة لثقل عليهم تركها، ولما أمكن اقتلاع جذورها من قلوبهم، وقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: «أول ما نزل من القرآن من القرآن آيات من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، فلما ثاب الناس للإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول ما نزل لا تشربوا الخمرة لقالوا: لا ندع الخمرة أبدًا».
اللطيفة الثالثة:
التعليل بقوله تعالى: {حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} فيه إشارة لطيفة إلى أن المصلي ينبغي عليه أن يكون خاشعًا في صلاته يعرف ما يقوله من تلاوة، وذكر، وتسبيح، وتمجيد، فقد نهى سبحانه السكران عن الصلاة لأنه فاقد التمييز لا يعرف ماذا قرأ؟ فإذا لم يعرف المصلي المستغرق بهموم الدنيا كم صلى، وماذا قرأ؟ فقد أشبه السكران، ولهذا ورد عن بعضهم تفسير السكر بأنه السكر من النوم والنعاس، وهو صحيح في المعنى ولكنه بعيد في التفسير لا يناسبه سبب النزول.
اللطيفة الرابعة:
طريقة القرآن الكريم (الكناية) عمّا لا يحسن التصريح به من الألفاظ، وهذا أدب من آداب القرآن لإرشاد الأمة إلى سلوكه عند تخاطبهم، فقد كنّى عن الحدث بالمجيء من الغائط، والغائط هو المكان المنخفض من الأرض يقصده الإنسان لقضاء حاجته تسترًا واستخفاءً عن الأبصار، ثم صار حقيقة عرفية في الحدث لكثرة الاستعمال، وملامسة النساء كناية عن غشيانهن ومجامعتهن، ولمّا كان لفظ الجماع لا يجمل التصريح به فقد أورده بالكناية {أَوْ لامستم النساء}.
ففي الآية الكريمة كنايتان وهما من لطيف العبارة ورائع البيان.
اللطيفة الخامسة:
قال في البحر المحيط: وفي الآية تغليب الخطاب، إذ قد اجتمع خطاب وغيبة فالخطاب {كُنْتُمْ مرضى} و{لامستم النساء} والغيبة قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ} وما أحسن ما جاءت هذه الغيبة لأنه لما كنّى عن الحاجة بالغائط كره إسناد ذلك إلى المخاطبين، فنزع به إلى لفظ الغائب بقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ} وهذا من أحسن الملاحظات، وأجمل المخاطبات، ولمّا كان المرض والسفر ولمس النساء لا يفحش الخطاب بها جاءت على سبيل الخطاب. فتدبر هذا السر الدقيق.
اللطيفة السادسة:
«روي أن الصحابة كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وانقطع عقد لعائشة رضي الله عنها، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم على التماسه والناس معه وليس معهم ماء، فأغلظ (أبو بكر) على عائشة وقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليس معهم ماء؟ فنزلت الآية، فلما صلّوا بالتيمم وأرادوا السير بعثوا الجمل فوجدوا العقد تحته»، فقال (أسيد بن حضير) ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، يرحمك الله يا عائشة فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيرًا وفرجًا.

.الأحكام الشرعية:

.الحكم الأول: ما المراد من قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى}

اختلف العلماء في المراد من الصلاة في الآية الكريمة، فذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد بها حقيقة الصلاة، وهو مذهب (أبي حنيفة) ومروي عن (علي) و(مجاهد) و(قتادة).
وذهب بعض العلماء إلى أن المراد مواضع الصلاة وهي المساجد، وأن الكلام على حذف مضاف، وهو مذهب (الشافعي) ومروي عن ابن مسعود، وأنس، سعيد بن المسيب.
استدل الفريق الأول بأنّ الله تعالى قال: {حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} فإنه يدل على أن المراد لا تقربوا نفس الصلاة، إذ المسجد ليس فيه قول مشروع يمنع منه السكر، أما الصلاة ففيها أقوال مشروعة من قراءة، ودعاءٍ، وذكر، يمنع منها السكر، فكان الحمل على ظاهر اللفظ أولى.
واستدل الفريق الثاني بأن القرب والبعد أولى أن يكون في المحسوسات فحمله على المسجد أولى، ولأنّا إذا حملناه على الصلاة لم يصحّ الاستثناء في قوله: {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} وإذا قلنا إن المراد به المسجد صح الاستثناء، وكان المراد به النهي عن دخول الجنب للمسجد إلا في حالة العبور.
فسرّ الحنفية (عابر السبيل) بأن المراد به المسافر الذي لا يجد الماء فإنه يتيمم ويصّلي، وقد اختار الطبري القول الأول وهو الظاهر المتبادر لأن اللفظ إذا دار بين الحقيقة والمجاز كان حمله على الحقيقة أولى. ويؤيد ذلك ما ورد في سبب النزول.
قال في: والمراد بالصلاة حقيقتها لا موضعها وهو المساجد كما قال الشافعية، والنهي عن قربانها دون مطلق الإتيان بها لا يدل على إرادة المسجد، إذ النهي عن قربان العمل معروف في الكلام العربي، وفي التنزيل خاصة {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 32] والنهي عن العمل بهذه الصيغة يتضمن النهي عن مقدماته.
وثمرة الخلاف بين الفريقين تظهر في حكم شرعي وهو هل يحل للجنب دخول المسجد؟
فعلى الرأي الأول لا يكون في الآية نص على الحرمة وإنما تثبت الحرمة بالسنة المطهرة كقوله عليه السلام: «فإني لا أحل المسجد لجنب ولا حائض» وغير ذلك من الأدلة.
وعلى الرأي الثاني تكون الآية نصًا في حرمة دخول الجنب للمسجد إلا في حالة العبور فإنه يجوز له أن يعبر دون أن يمكث.